الذكرى الخمسون لاغتيال
الشّاعر والصّحفي والكاتب المسرحي محمّد بودية

تمرّ علينا الذّكرى الخمسون لرحيل الشّهيد محمّد بودية، الذي اغتاله جهاز الموساد في يوم الثّامن والعشرين من شهر جوان –يونيو- من القرن الماضي، عبر تفخيخ سيّارته التي كانت مركونة بجانب الرّصيف بشارع سان برنار بباريس، عندما همّ بركوبها. وقد شُيّعت جنازته يوم الرّابع من شهر جويلية –يوليو- بمقبرة القطّار حيث حضر الجنازة أفراد العائلة مع جمع غفير من أبناء حيّه الذين رافقوا الجثمان مشيا على الأقدام من حيّ القصبة العريق إلى المقبرة.
وُلد الشّهيد محمّد بودية في الرّابع والعشرين من شهر فبراير –شباط- من عام اثنين وثلاثين من القرن الماضي، وترعرع بحيّ القصبة الشّعبي الذي كان بمثابة القلب العربيّ النّابض للعاصمة الجزائر ذات الملامح الأوروبية آنذاك، حيث يعيش أكثر من ثمانين ألف جزائري، مُحاصرين اجتماعيا وثقافيا وحتّى عسكريا في فصل شبه تام عن المُعمّرين الأوروبيين، وفي سياق تاريخيّ حسّاس تطبعه مئوية دخول فرنسا للجزائر -سنة ثلاثين من القرن التاسع عشر- وتأسيس جمعية العلماء المسلمين بعد مولده فقط بسنة واحدة، وكذلك ثورة عبد الكريم الخطّابي بالمغرب الشّقيق واندلاع الحرب العالمية الثانية، فتأثّر وهو في سنّ مبكّرة بكلّ ما كان يُحيط به من أحداث سياسية صاخبة.
كان أبوه يعمل خيّاطًا بسيطًا بمتجره في شارع “لا لير” إلى أن تُوفي رحمه الله، تاركًا وراءه ابنه محمّد في سنّ الثالثة عشر، ليضطرّ هذا الأخير إلى مزاولة مهنة تلميع الأحذية صباحًا وبيع الجرائد بعد الظّهر بساحة مبنى الأوبرا وهو مبنى المسرح الوطني اليوم، مثل أبناء غالبية المُفقّرين من الجزائريين، وتشاء الأقدار أن يُصبح هو شخصيا مدير هذا المبنى بالذّات بُعيد الاستقلال. اشتغل بعدها عند رجل يهوديّ في متجر لبيع الأقمشة بشارع “لا لير” فكان سببا في توقيفه لأوّل مرّة في حياته وهو مراهق، لأنّ الرجل لم يُعطه أجره ما اضطرّ محمّد إلى أخذه خِلسة في غيابه، فقدّم به صاحب المتجر شكوى اتّهمه فيها بالسرقة، فقضى الصّغير محمّد مدّة محكومية بمركز بئر خادم للأحداث كانت جدّ مؤثّرة في القادم من حياته، حيث اكتُشفت هناك مواهبه المسرحية وبدأ في الصّعود إلى الخشبة في إطار النشاطات التي تُنظَّم داخل المؤسسة، كما احتكّ بآخرين يحملون نفس الغضب وعدم الرضا من الممارسات الاستعمارية والتّمييز. وبعد خروجه من مركز بئر خادم التحق بالعمل المسرحي فطوّر معارفه وصقل مواهبه، حتّى برع فيه إلى أن انفجرت ثورة التّحرير الوطني فالتحق بصفوف جبهة التّحرير الوطني مثل الكثير من أقرانه. انتقل بعدها إلى فرنسا سنة ستّة وخمسين واستقرّ بالعاصمة الفرنسية باريس، مناضلا في صفوف فدرالية جبهة التّحرير الوطني هناك وتدرّج في المسؤوليات بها من الخلية إلى المجموعة، إلى المنطقة، حتّى أصبح تنظيميا قائد جهة –المقاطعة الباريسية التاسعة عشر- هذا في الهيكل السياسي، أمّا عسكريا فقد أوكلت له قيادة “الفرقة الخاصّة” والتي نفّذت تفجيرات خزّانات النّفط بمنطقة “موربيان” قرب مرسيليا في الخامس والعشرين من شهر أوت –أغسطس- من عام ثمانية وخمسين من القرن الماضي، فألقت عليه الشرطة الفرنسية القبض على إثرها ليقضي حوالي ثلاث سنوات بسجن “فران” قرب باريس قبل أن يتمكّن من الفرار في عام واحد وستّين.
كانت الفترة التي قضاها الشهيد محمّد بودية بالسّجن من أخصب فترات عمره فكريا وفنّيا وسياسيا، حيث كتب فيها نصّين مسرحيين: وِلادات والزيتونة، وترجم فيها مسرحيات موليير إلى العربية الجزائرية ليتمكّن السّجناء من استيعابها، وأشرف على نشاطات متعدّدة منها عرض مسرحيات وإقامة ندوات فكرية يُنشّطها هو وأصدقاؤه من المثقّفين أمثال: الفيلسوف إيتيان بولو وفرانسيس جونسون وأونري كيريال من شبكة “حملة الحقائب” التي تضمّ أصدقاء الثّورة التّحريرية، لفائدة زُهاء ألف سجين من الجالية المغاربية.
وفي سنة واحد وستّين دبّر له أصدقاؤه من شبكة فرانسيس جونسون وأونري كيريال عملية فرار ناجحة من السّجن بعد أن طلب نقله قبل ذلك إلى سجن “آنجي”، ثمّ ساعدوه على اختراق الحدود متّجها نحو بلجيكا ثمّ سويسرا ومن هناك إلى تونس حيث التحق بالفرقة الفنّية لجبهة التّحرير الوطني التي كان يرأسها مصطفى كاتب وبقي هناك إلى غاية إعلان الاستقلال.
بعد الاستقلال أسّس بودية رفقة ثلّة من المثقّفين، من بينهم مصطفى كاتب وجون ماري بويغلين، المسرح الوطني الجزائري الذي أصبح لاحقا مديرا ومسيّرا لنشاطاته، كما كان له الفضل في تأسيس مدرسة الفنون الدرامية بسطاوالي سنتين فقط بعد الاستقلال والتي نُقِل مقرّها لاحقا إلى برج الكيفان وهي موجودة إلى يومنا هذا، وقد تكوّن فيها وتخرّج منها أوائل الفنّانين والمُمثّلين الجزائريين في المسرح والسينما.
لم يكتف الشّهيد محمّد بودية بالمسرح فقد كان شاعرًا أيضا وكاتبا صحفيا، حيث أسّس صحيفة “الجزائر هذا المساء” وكان يُشرف أيضا على صحيفة “نوفمبر” التّابعة لجبهة التّحرير الوطني، وينشر مقالات فكرية وسياسية على صفحاتهما. وكان يُرافع من أجل ثقافة شعبية يستفيد منها الجميع حيث أطلق وسيّر ما أسماه “القطار الثقافي” الذي جال بالمدن الجزائرية الداخلية ناشرا الفنّ والمسرح في ربوع الوطن.
وعقب انقلاب التاسع عشر من شهر جوان –يونيو- من القرن الماضي الذي نفّذه الرئيس بومدين ووصل من خلاله إلى هرم السلطة، عارض الشّهيد محمّد بودية الانقلاب، وأسّس مع ثلّة من المجاهدين والمثقّفين حركة أسموها: منظّمة المقاومة الشّعبيّة، ثمّ اختفى عن الأنظار إلى أن تمكّن صديق له من مسرح عنّابة من تهريبه إلى دولة تونس الشّقيقة ومنها عاد ثانية إلى فرنسا، حيث التقى من جديد برفاقه الذين دعموه في حرب التّحرير من أصدقاء الثّورة الجزائرية، ففعّل شبكة علاقاته القديمة من جديد.
عاد الشّهيد إلى ممارسة المسرح الذي كان شغفه الذي لا ينتهي، فشغل مدير نشاطات بمسرح غرب باريس الذي كانت ترتاده الجالية المغاربية هناك، وعمل على جعله مسرحا شعبيا كما كان يؤمن ويطمح دائما، على منوال المسرح الوطني الجزائري الذي شارك في تأسيسه.
والتقى أيضا هناك من جديد بصديقه القديم المجاهد المرحوم بشير بومعزة، الذي كان يُشاطره الموقف من الانقلاب، والذي استقال من الوزارة والتحق بفرنسا وأُبعِد منها بعد ذلك فاستقرّ في جنيف بسويسرا، وكانا ينشطان تحت حركة: التجمّع الوحدوي للثّوريين. وكان للمرحوم بشير بومعزة بالغ الأثر على حياة الشّهيد بودية فهو مَن أقنعه بتغيير بوصلة النّضال من مقاومة الانقلاب إلى المقاومة الأكبر وهي مقاومة الظّلم والاستعمار والإمبريالية في العالم، فسافر معه إلى هافانا عاصمة كوبا حيث التقيا هناك بقائد الجناح العسكري للجبهة الشّعبية لتحرير فلسطين وديع حدّاد، فانخرط الشّهيد من يومها في مقاومة الظّلم في العالم وعلى رأسها مقاومة الكيان الصّهيوني المحتلّ للأرض العربية، فلُقّب بأبي الثّورتين –ثورة التّحرير الجزائرية والثّورة الفلسطينية-وأنشأ علاقات مميّزة أيضا مع منظّمة “أيلول الأسود” التي أُنشِأت ردّا على المجازر الدّموية التي ارتُكِبت في حقّ الفلسطينيين في المخيّمات بالأردن الشّقيق. فكان محمّد بودية بحكم تنوّع أصدقائه من أصحاب الثّقة من فرنسيين وجزائريين ومغاربة وفلسطينيين ولاتينيين، وبحكم معرفته الجيّدة بأوروبا وخاصة فرنسا، رقما مهمّا في المقاومة العربية للصهاينة، حيث أرّق مضجع أجهزة الموساد التي كانت تعتبر أوروبا إلى وقت قريب مكانها الآمن وقاعدتها الخلفية التي تستغلّها أشدّ الاستغلال في التمويل بالمورد البشري من أجل تهجيره إلى الأراضي العربية المغتصبة، وبالأموال والوسائل التي تجمعها شبكاتها المنتشرة هناك، ناهيك عن الدّعم الدبلوماسي والعسكري.
لم يتوقّف الشّهيد محمّد بودية عند هذا الحدّ، بل برع في نسج علاقات أفقية بين مختلف التّنظيمات العالمية المناهضة للإمبريالية والاستعمار بإيطاليا، ألمانيا، أمريكا اللاتينية واليابان ومنها: الجيش الأحمر الياباني ومختلف حركات المقاومة الفلسطينية بشتّى اتّجاهاتها. واستطاع أن يُجنّد شابا فنزويليا مغمورا لا يعرفه أحد، ويُقنعه بالنّضال من أجل الشّعب الفلسطيني، حيث قاد هذا الشّاب لاحقا عملية “ميونيخ” الاستعراضية بألمانيا في سبتمبر –أيلول- سنة اثنين وسبعين، التي احتجز فيها “كوماندو” فلسطيني، بتخطيط وإسناد من بودية، مجموعة من البعثة الرياضية “الإسرائيلية” وطالبوا بتحرير معتقلين في سجون الكيان الغاصب، لكنّ العملية انقلبت إلى مجزرة بعد تدخّل عنيف من قوّات الأمن الألمانية، فقُتِل جميع الرّهائن وأغلب أعضاء “الكوماندو” الذي قاده الثّائر الفنزويلي “كارلوس الثّعلب” كما لقّبته الأجهزة الأمنية الغربية من حينها، والذي كان قد جنّده الشّهيد بودية بعدما التقاه كزميل دراسة له بجامعة “باتريس لومومبا” بالعاصمة موسكو.
كما خطّط وأسنَد ونفّذ الشّهيد عدّة عمليات أخرى ضدّ العدوّ الصّهيوني منها استهداف متكرّر لطائرات شركة الخطوط “الإسرائيلية”: العال، كما حدث يوم السابع من سبتمبر –أيلول- سنة سبعين عندما أسند بودية في باريس أيقونة المقاومة الفلسطينية: ليلى خالد في العملية التي فشلت وانتهت بإلقاء القبض عليها، ونسّق الشّهيد بنفسه العملية المزدوجة لتفجير مصافي “أومان ورفانشتاين” بهولندا في فبراير –شباط- سنة اثنين وسبعين، وفي نفس السنة جنّد “كوماندو” نسائي تقوده “إيفلين بارج” وهي عاملة صندوق بالمسرح الذي يشتغل به الشّهيد، حيث أعدّ مخطّطا لسلسلة عمليات بقلب “تل أبيب” تتزامن مع احتفالات “عيد الفصح”، وفي الخامس من أوت –أغسطس- من نفس السنة نفّذ بنفسه عملية تخريب لأنبوب نفط يموّل دولة الكيان، بمنطقة “تريست” بإيطاليا، كما كان العقل المُدبّر للعملية الاستعراضية التي نفّذها أعضاء من منظّمة الجيش الأحمر الياباني ضدّ مطار “اللّد” قرب “تل أبيب” في الثلاثين من ماي –مايو- سنة اثنين وسبعين أيضا، ونفّذ الشّهيد بودية بنفسه في إسبانيا، عملية تصفية لعقيد في الموساد متخفٍّ كان مسؤولا على منطقة أوروبا.
وكان بودية أثناء كلّ هذه الأحداث الميدانية الصّاخبة يُواصل عمله وعروضه كمسرحي، وحياته اليوميّة العادية في باريس إلى أن اكتُشِف أمره وتردّد اسمه في أروقة أجهزة المخابرات الدّولية. حينها قرّرت رئيسة الوزراء “الإسرائيلية” غولدامائير” تصفيته هو وآخرين من الثّوار الدوليين، فأنشأت فرقة أسمتها “الحربة” أوكِلت إليها المهمّة. لكنّ الموساد وبالتّنسيق مع أجهزة مخابرات غربية أخرى صعُب عليه تحديد موقع الشّهيد وتعقّبه لشهور، بسبب إتقانه لفنون المسرح ومنها التخفّي وتغيير الشّكل، فكان كلّما رُصِد بمكان إلّا وتبخّر من جديد وسط المارّة وبين الجموع حتّى وصفوه بالرّجل ذي المائة وجه وذي اللّحية الزرقاء أيضا، إلى أن تمكّنت هذه الأجهزة في الأخير من رصده بعد عناء كبير، وتفخيخ سيارته بتقنية جديدة استُعمِلت خصّيصا من أجله، بحكم معرفته الواسعة بالمتفجّرات فقد كان من السّهل عليه اكتشاف التّفخيخ بالطرق التّقليدية. توفّي الشّهيد الثّائر، والشّاعر والمسرحي محمّد بودية إثر تفجير سيارته من نوع “رونو ستة عشر” الرمادية التي كانت مركونة قرب رصيف شارع “سان برنار” في الثّامن والعشرين من شهر جوان –يونيو- لعام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي، ودُفِن بتاريخ الرّابع من شهر جويلية –يوليو- من نفس العام بمقبرة القطّار بالجزائر العاصمة.
اليوم وفي الذّكرى الخمسين لاغتيال الشّهيد محمّد بودية، نجد أنفسنا مُقصّرين أيّما تقصير في حقّه كبطل وطني وعالمي، ناضل ضدّ الاحتلال والتّمييز والظّلم والإمبريالية العالمية، وكذلك كفنّان مسرحي وشاعر وصحفي حمل على قلبه عبء المبادئ والقضايا العادلة، فجلّ شباب الجيل الحالي لا يعني له اسم الشّهيد محمّد بودية أيّ شيء ولا يعرف شيئا عن سيرته المُضيئة، بفِعل غفلتِنا عن تمجيد أبطالنا وأساطيرنا الذين كتبوا التّاريخ العالمي بالحِبر والدّم، وجعلوا اسم الجزائر عاليا بين الأمم. وللأسف لم يحظ الشّهيد بالتّقدير اللّائق بشخصه وتضحياته حيث يتواجد قبره اليوم في مقبرة القطّار في حالة يُرثى لها، بعد التّخريب الذي طاله سنوات التسعينيات، ولم يحمل اسمه سوى “زُقاق” صغير -لا يتعدّى عرضه أربعة أمتار وبه سلالم- يتفرّع من شارع محمّد الخامس بالعاصمة الجزائر، فحبّذا لو يُعاد الاعتبار لشخصه وذكراه ويُسمّى على اسمه صرح أو هيكل ثقافي يكون متناسبا مع مساره الفنّي والنّضالي مثل: مدرسة الفنون الدرامية ببرج الكيفان التي ناضل هو شخصيا من أجل إنشاءها غداة الاستقلال.